التوقيعات – فن تراثي نسيناه
د . يسري عبد الغني عبد الله – باحث وخبير في التراث الثقافي / مصر
بين المعنى و المصطلح :
التوقيعات فن نثري عرف قبل العصر الأموي (41 هـ ـ 132 هـ) ، وإن قال البعض : إنه أموي النشأة .
وقبل أن نتناول هذا الفن علينا أن نعرض له من الناحية اللغوية ، فهو مصطلح مأخوذ من (وقعت الإبل) أي اطمأنت بالأرض بعد التشبع بشرب الماء ، وذلك لأن الكاتب الموقع يطمئن إلى تصرفه للأمر ، وقضائه فيه ، أو من وقع ظنه على الشيء أي قدره ، لأن الموقع يكتب رأيه بعد تدبر .[ابن منظور ، لسان العرب ، مادة وقع ]
ومنه : وقع في الكتاب ، أي بين في إيجاز رأيه فيه بالكتابة ، والتوقيع ما يعلق به الرئيس على كتاب أو طلب برأيه فيه [مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، المعجم الوجيز ، مادة وقع ].
والتوقيعات فن نثري له صلة بفن الرسائل من حيث المضمون ، فإذا كانت الرسالة تتضمن مطلباً يراد تحقيقه من خلال بناء فني لها ، فإن التوقيعات مع إيجازها تعد بمثابة جواباً للرسالة .
والتوقيعات عبارة موجزة ، سليمة التركيب ، دقيقة الفكرة ، مركزة ، تحمل رأي كاتبها في شكوى ، أو مسألة من المسائل ، أو تعليقه على موقف معين .
وقد عرفت التوقيعات منذ عهد الخليفة الراشد / عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) [13 هـ – 23 هـ ] ، إبان فتوحاته الإسلامية ، نظراً لضرورة هذا الفن ، وملاءمته لظروف المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت .
فن عربي أصيل :
وفي هذا السياق يمكن لنا أن نرد على من رأى أن فن التوقيعات قد أخذه العرب عن الفرس ، وذلك بالأدلة التالية :
1 – إن العرب قد عرفوا هذا الفن قبل أن يتصلوا بالفرس اتصالاً مباشراً ، كما أنه لا فرق بين توقيعاتهم قبل اتصالهم بالفرس ، وبعد أن اتصلوا بهم .
2 – التوقيعات قائمة على ما يلائم النظرة العربية التي تميل بفطرتها إلى الإيجاز ، ومقدرة على البيان ، وسرعة خاطر .
نعود لنقول : حين اتسعت رقعة الدولة الإسلامية ، وتنوعت شئونها ، وكثرت مطالب الناس وحاجاتهم ، وتطلبت بعض المواقف سرعة البت فيها ، ومع كثرة شواغل الخلفاء والحكام والقادة ، وتمكنهم من اللغة العربية ، ودقتهم في التفكير ، وسرعة بديهتهم .
كل ما سبق أدى إلى ظهور هذا اللون الجديد من الكتابة ، الذي سمي بالتوقيعات ، وكما أسلفنا فإن هذا الفن نشأ في عهد الفاروق / عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ، ثم استمر في العصر الأموي ، ثم زاد اهتمام الكتاب ، والخلفاء ، ورجال الدولة به في العصر العباسي (132 هـ – 656 هـ ) ، واشتهر بالمهارة والتجويد في الكثير من الخلفاء ، والوزراء ، والكتاب .
وفيما يلي سنذكر لك طائفة من التوقيعات كتبت في العصر الأموي ، وطائفة أخرى كتبت في العصر العباسي ، معلقين على الطائفتين ، موضحين أهم خصائصهما قدر الطاقة والإمكان .
طائفة من التوقيعات في العصر الأموي :
1ـ كتب ربيعة بن عسل اليربوعي إلى معاوية بن أبي سفيان (41 هـ – 60 هـ ) ، يسأله أن يعينه على بناء دار له بالبصرة العراقية ، بإثنى عشر ألف جزع من النخل ، فوقع معاوية على رسالته بقوله : “أدارك في البصرة ، أم البصرة في دارك ؟ ! ” .
2 ـ وكتب مسلم بن عقبة المري إلى يزيد بن معاوية (60 هـ – 64 هـ ) ، بما فعله بأهل المدينة في واقعة الحرة ، فوقع في أسفل الكتاب بقوله : “فلا تأس على القوم .. ” .
3 ـ وكتب الحجاج بن يوسف الثقفي إلى عبد الملك بن مروان (65 هـ – 86 هـ) ، يخبره بقوة عبد الرحمن بن الأشعث ، فوقع على الكتاب بقوله : “بضعفك قوى ، وبخوفك طمع ” .
4 ـ وكتب قتيبة بن مسلم إلى سليمان بن عبد الملك (96 هـ – 99 هـ) ، يتهدده بالخلع ، فوقع سليمان بقوله :”والعاقبة للمتقين ” .
5 ـ وكتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز (99 هـ – 101 هـ) ، إليه يستأذنه في أن يرمم أو يصلح من شأن المدينة التي يتولاها ، فوقع عمر بقوله : “ابنها بالعدل ، وطهر طرقها من الظلم ” . [أحمد بن عبد ربه ، العقد الفريد ، 5 / 393].
أهم الخصائص الفنية للتوقيعات الأموية :
– الإيجاز في التوقيع ، مع احتواء الرسالة على المضمون .
– يكون التوقيع رداً على رسالة مكتوبة ، فهي بمثابة تأشيرة للتنفيذ .
– التقسيم المنطقي بعيداً عن السجع المتكلف .
– قد تكون التوقيعة جزءاً من آية من آيات القرآن الكريم ، أو مقتبسة منه .
– تكون التوقيعة عتاباً ، أو سؤالاً استنكارياً ، أو تكون توضيحاً ، وهي بذلك تدل على مهارة المتلقي للرسالة ، وسرعة بداهته ، وبلاغته .
– غالباً ما تكون التوقيعة بين رئيس ومرؤوس ، فهي أشبه ما تكون بالتأشيرات الحكومية التي نعرفها الآن .
– تعتمد التوقيعة على الأفعال ، أكثر من اعتمادها على الأسماء ، لأنها بطبيعة الحال ترد على أحداث حدثت ، والمطلوب بيان المواقف من هذه الأحداث .
نقول : لقد ظهرت التوقيعات قبل العصر الأموي ، واستمرت في العصر الأموي ، واشتدت ظهوراً في العصر العباسي ، نظراً لأنها صارت مهنة رسمية معترف بها
يقول ابن خلدون : ومن خطط الكتابة التوقيع ، وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السلطان في مجال حكمه وفصله ، ويوقع على القصص المرفوعة أحكامها ، والفصل فيها ، متلقاة من السلطان بأوجز لفظ وأبلغه .[ ابن خلدون ، المقدمة ، 619 ].
طائفة من التوقيعات في العصر العباسي :
1 ـ رفع صاحب خرسان إلى المنصور العباسي / عبد الله أبو جعفر (136 هـ – 158 هـ ) ، رسالة ، ظهر للخليفة منها أن عامله أساء في التصرف ، فوقع عليها بقوله : “شكوت فأشكيناك ، وعتبت فأعتبناك ، ثم خرجت على العامة ، فتأهب لفراق السلامة ” .
و(أشكيناك ) أي أنصفناك ، وقضينا على أسباب شكايتك ، و (أعتبناك) أي قبلنا عتبك .
والمنصور هنا يخبر عامله على خرسان الذي أساء التصرف بأنه أحسن إليه ، ولكنه أساء إلى الناس ، فوجب عزله على الفور .
2 ـ وكتب إلى المنصور أيضاً عامله بمصر ، يشكو نقصان نهر النيل ، فوقع على الكتاب بقوله : “طهر عسكرك من الفساد ، يعطك النيل القياد ” .
ومعنى (القياد) الزمام ، والمراد وفرة الخير ، والمنصور العباسي هنا يبين لعامله بمصر أن الفساد ، وما يرتكبه جنوده من موبقات ، هو السر في نقصان نهر النيل ، وأن هذا النقصان ما هو إلا عقاب من الله تعالى ، لا يزول إلا بصلاح الحال والأحوال .
3 ـ ورفعت إلى الخليفة / المهدي محمد أبو عبد الله (158 هـ – 169 هـ ) ، قصة رجل حبس في دم ، فوقع فيها بقوله : “ولكم في القصاص حياة ” .
والقصاص هو إقامة الحد على الجاني ، والمهدي يبين في توقيعه أن من قتل فجزاؤه القتل ، وبهذا يعم الاستقرار والسلام المجتمع ، وهذه إشارة من المهدي بأن الواجب قتل هذا الرجل .
4 ـ وبعث إلى الخليفة / المهدي أيضاً عامله بأرمينيا يشكو له سوء طاعة الرعية ، فوقع إليه بقوله: “خذ العفو ، وأمر بالعرف ، واعرض عن الجاهلين ” .
والعرف هو : المعروف ، والجاهلين : المعتدين ، والمراد هنا : السفهاء والحمقى .
والمهدي يأمر عامله بأن يأمر بالمعروف ، ويعفو عن أصحاب الهفوات ، ويتجنب السفهاء والحمقى قدر الإمكان .
5 ـ ووقع الخليفة / هارون الرشيد (170 هـ – 193 هـ ) إلى صاحب خرسان ، وقد بدا تزمر الرعية عليه : “داو جرحك لا يتسع ” .
فهو ينصح عامله بخرسان أن يتدارك أمره ، ويحسن معاملة الناس قبل فوات الأوان .
6 ـ ووقع الخليفة / الرشيد أيضاً في حادثة البرامكة ، بقوله : ” أنبتتهم الطاعة ، وحصدتهم المعصية ” .
الرشيد يبين رأيه في حادثة البرامكة ، فيقول : إنهم حين كانوا مطيعين ، يفون بالعهد للخلفاء ، عظم شأنهم ، وحين خانوا قضت عليهم خيانتهم .
وقوله (أنبتتهم الطاعة ، وحصدتهم المعصية ) : شبه فيه البرامكة وقد ظهروا بسبب إخلاصهم ، بالبذور التي تنمو ، وتترعرع ، ثم شبههم وقد نكبوا بسبب تمردهم وخيانتهم بالزروع التي تحصد , ثم حذف المشبه به في كل من الصورتين ، وأبقى في الكلام ما يدل عليه وهو أنبتت ، وحصدت ، وهما استعارتان مكنيتان ، سر جمالهما أنهما يظهران أثر الطاعة ، وأثر المعصية في صورة مادية ملموسة هي صورة البذور وهي تنمو ، والزروع وهي تحصد .
7 ـ ووقع المأمون العباسي ، عبد الله أبو العباس ،ابن هارون الرشيد (198 هـ ـ 218 هـ) ، في قصة عامل كثرت منه الشكوى : “قد كثر شاكوك ، وقل شاكروك ، فإما اعتدلت ، وإما اعتزلت .” .
فالمأمون العباسي يأمر عامله الذي كثرت منه الشكوى ، وتضجر الناس منه ، يأمره بالاعتدال في الحكم ، و إلا عزله عن العمل .
التوقيعات العباسية : الخصائص ، والأسباب :
لعلنا قد لاحظنا أن التوقيعات في العصر العباسي لا تختلف كثيراً في أسلوبها عن التوقيعات في العصر الأموي ، فهي تعتمد في أسلوبها على التركيز والوضوح في الفكرة ، والإيجاز في الصورة ، وجمال التصوير ، ولطف الإشارة .
أما عن الأسباب التي أدت إلى شيوع واستمرار هذا الفن في العصر العباس ، فيمكن لنا أن نجملها فيما يلي : تنوع شئون الدولة ، وكثرة حاجات الناس ومطالبهم ، وطبيعة المواقف التي تتطلب بتاً سريعاً ، ودقة تفكير القادة ، وتمكنهم من اللغة العربية , واتساع ثقافتهم .
وكما يذهب بعض الباحثين ، فإننا نجد في العصر العباسي التأثر بالآداب والثقافات الأجنبية ، مثل : الفارسية ، والهندية ، واليونانية ، ولكن رغم ذلك فقد كان للعرب أصالتهم في فن الإيجاز الذي ظهر جلياً واضحاً في أمثالهم وحكمهم ثم توقيعاتهم .
وقد برع من أصحاب التوقيعات في العصر العباسي : أبو جعفر المنصور ، وابنه المهدي محمد أبو عبد الله ، وهارون الرشيد ، وابنه المأمون عبد الله أبو العباس ، وكثير من وزراء الدولة العباسية .
ومما لا شك فيه أن التوقيعات ازدهرت في العصر العباسي الأول ، استمراراً لازدهارها في العصر الأموي ، ثم ضعف شأنها ، حين مال النثر الفني إلى الصنعة والإطالة ، وذلك لأن قوام التوقيعات هو الإيجاز والتركيز .
وختاماً لهذه السطور ندعو الباحثين إلى دراسة علمية منهجية لفن التوقيعات ، ذلك الفن الذي نسيناه أو تجاهلناه ، فلعل هذه الدراسة تكشف لنا عن أبعاد نفسية واجتماعية وأدبية وسياسية يمكن أن يوضحها لنا هذا الفن النثري الأصيل في أدبنا العربي .
مصدر الصورة :