الثلاثاء, مارس 19

رسائل – أحلام مستغانمي

إلى الفدائي الذي منحني كلّ الأسماء…

إلا إسمه

من أين عاد وجهك إليّ هذا المساء؟

كيف أطلّ وسط هذا الحزن الخريفي

أكتب إليك وخلف شباكي تبكي السماء. وفي ذاكرتي صور كثيرة لنا في

كل المواسم.

تصوّرت قبل اليوم أنني قد أستقبل الفصول معك.

يبدو أنني سأظلّ أستقبلها وحدي.

لا زلت أجوب شوارع التاريخ

أبحث عن وجهي الضائع الملامح في وجوه السواح والغرباء

في وجوه الثوار والزعماء.

ذاكرتي عشرات الرجال من كل قارات العالم.

جسدي لم تبق عليه مساحة صغيرة لم تتمرغ عليها شفاه رجل.

تغرّبت بعدك كثيراً

في غربتي الكبرى يحدث أن أجمع أحزاني على كفيك وانتظر المعجزة.

يحدث أن أسرق منك قبلة وأنا أسير في المدن البعيدة مع غيرك.

يحدث أن أتسلل معك نحو عنب الخليل.. أن أزحف معك على الأرض الطيبة.

وأسقط إلى جوارك متعبة.

أيمكن لقلبك أن يحملني عندما يجب أن يخف الحمل

أيمكن أن نحقق هناك كل الأحلام التي لم تكتمل؟

كم كنت حزينة بعدك

ولكن صورتك وحدها سافرت وعادت معي

صورتك وحدها نامت معي في فنادق العالم

وشفتاك وحدهما اللتان أرتعش لهما جسدي

ذات مرة أتاني صوتك من بعيد

كنت سائحة غريبة في بلد غريب

حاولت أن أراك كما أردتك أن تكون

وكانت سماء حيفا ماطرة.. ولم أكن هناك

فحسدتك.

أيلول 1973

كبر الحزن أيها الرفيق

في هذه المدينة لا يأتي الصيف أبداً

الرياح لا تفارق السماء

وأنا متعبة

عندما تغلق كل الأبواب

أرتدي أحلى فساتيني وأجلس لأكتب إليك

أيلول 1973

تتحدث اليوم آخر الأخبار عن الكيلومتر 101

يتحدّثون طويلاً عن رقم لم يكن في ذاكرة الشهداء

لأن الماء يغلي في درجة المئة وأنا أصبحت أغلي بدرجة المئة وواحد.

سأخلع أحلى فساتيني وأكتب إليك عارية

سعداء أولئك الذين ماتوا وهم يعتقدون أنهم تجاوزوا المئة وواحد ومنحونا

رقماً مطلقاً

سأكتب شيئاً عظيماً هذا المساء

ظروفي تساعد على الجنون

أكتوبر 1973

لا زلت أشتري الجريدة كل صباح بحكم العادة

لا زالت القاهرة تتردّد وبغداد ترفض ودمشق تقاوم وعمّان تتفرّج

وبيروت ترقص

ولا زلت أكتب إليك عارية

أكتوبر 1973

هذا المساء وأنا أغادر الجامعة، جرّتني مظاهرة طلابية إلى شارع

العربي بن مهيدي.

كنت في حاجة إلى أن أصرخ.. حتى يغمى عليّ

تذكرت أحد الأحلام، تمنيت لو نزل لحظتها مئة مليون عربي إلى

الشوارع، لو زحف ملاين الشباب نحو كراسي الخونة.

لو أنّ القصور العربيّة نُسفت في لحظة واحدة

لو أن التاريخ بدأ من شارع الشهداء

لو مثلهم قلنا (لا)

ولكن.. كنت فقط أهتف مع الشباب

(بالروح .. بالدم.. حنكمل المشوار)

وكنت أبكي

أكتوبر

يخال لي أن الحرب انتهت

رغم أن عناوين الجرائد لا تزال تحافظ على حجمها الكبير

ولونها الأحمر

أنا لا أنتظر شيئاً على الاطلاق

نوفمبر

أصبح الآن مؤكداً أن الحرب انتهت

لقد تبادلنا الأسرى والموتى والفرح والتعازي والشتائم

والشعارات والتهم..

وكثرت الأوسمة على الصدور

ديسمبر

أسأل نفسي هذا الصباح أين يمكن أن تكون..

كلما تذكرت آخر لقاء لنا شعرت بالخوف عليك

أعيد قراءة رسالتك الوحيدة

أتوقف عند الجملة الأولى (أنت مفاجأة جميلة، شعرك الأسود بقدر حقدي

التاريخي يشكّل هالة قدسيّة على ملامحك الأبديّة).

ربما كان هذا أجمل ما قلت لي

وبعدها .. لا شيء

قلت انك تدمن احتساء الصمت والدخان والنبيذ

فهمت أنّك قد لا تكتب إليّ بعد الآن من الجزائر

آخر مرة التقينا فيها كانت رأس السنة الماضية

جلسنا في مقهى نتحدّث عن الحب.. والحرب والزواج..

كنت أحبّك.. وكنت حزينة ككل بداية سنة

تمنيت لو انتميت إليك

كان عمري عشرين سنة

خفت ألا أنتمي لشيء بعدك

كنت تمثل عندي قمة الرفض والثورة، وكان يمكن أن تكون بداية شيء

رائع في حياتي

ولكن خرجنا

كنت تقول: “أنا أيضاً.. أشعر هنا أنني لا أنتمي لشيء لهذا يجب أن

أرحل”.

سألتك:

أيّ الفترات كنت فيها أكثر سعادة؟

قلت:

عندما كنت أحمل شيئاً آخر غير الجرائد..

وماذا صنعت؟

حاولت أن أهب هوية للأطفال الذين ولدوا غرباء عن العالم.

وخرجنا.

التقينا بصديق أخبرنا أنّ أحدهم قد انتحر بالأمس.

عمّ الصمت.

كان المنتحر رسّاماً مغربياً حاول أن يوقّع على لوحة حياته توقيعاً حزيناً،

فانتحر.

كان طيباً.

ما كانت له من هواية عدا التنفّس.

كانوا يعرفون خطورة التنفس عندما يبدأ هواية ويتحول فجأة إلى مبدأ.

كانوا يعرفون ذلك، فألقوا بالغازات السامة، ملأوا بها سماء البلد الطيب

وهاجر الفنان يبحث عن أوكسجين.

جاءنا.. ولكنه ما استطاع الحياة بعيداً عن السماء الأولى.

فقد اكتشف فجأة أنه نسي رئتيه هناك

فانتحر.

كان الناس يمرون أمامي مسرعين

بعضهم يجوب الشوارع بلا هدف. وكنت أسير بينهم.

أبحث في ملامحهم عن شيء، ربما عن ملامح الشاب المغربي.

تساءلت وأنا أراهم: أيستحق هؤلاء أن يموت أحد من أجل قضاياهم؟

مات الفنان (فتاة ببنطلون ضيّق تنتظر قادماً لا يأتي)

أحقاً مات (عجوز تسأل بائع الخضر.. إذا كانت أزمة البصل قد

حلّت).

قلت ذلك لصديق، فأجابني: يجب أن نحلّ قضايا الجماهير أولاً. أن

نجعلها تشبع، تحتمي بسقف، وتلبس، وتحلم. وعندها فقط يصبح بإمكانها

أن تفكر في القضايا الكبرى.

لا يمكن أن تسألي إنساناً يكاد يغطيه الطوفان:

لماذا لا يحتمي بمظلّة عند سقوط المطر؟ لنخرجه أولاً من الطوفان

عدت إلى الجامعة وأنا أحاول أن أتخيّل كميّة المياه الهائلة التي تغرقنا

يومياً.

قلت لي قبل أن نفترق “اليوم أصبح كل أصدقائي بين شهداء ومساجين

ومنتحرين، وحدي رفضتني السجون وكلما كان لي موعد مع الموت لم

يحضر”.

سألتني فجأة..

أتحبين الموت؟

قلت:

لا أعتقد.. لكنني لا أخافه

علّقتَ:

لن تكوني فدائية حتى تحبينه

وافترقنا.

مرّ عام على ذلك اللقاء. ذلك الفراق.

ولا زلت أسأل عنك الرفاق. ربما لأقول لك فقط، أنني بدأت أحبّه.

لا زالت صديقاتي في الجامعة يسألنني عنك

قلت لاحداهن، أنك فدائي ولم تحضر إلى الجزائر كي تقيم بيننا.

ضحكت، لأنّها لم تتصوّر فدائياً في وسامتك. ربّما لم تصدقني.

أظنّها تأثّرت بـ (جمهورية) أفلاطون.. فهي ترى أنّ الحرب خلقت

لتخلّص البشرية من القبيحين والمرضى وضعاف البنيّة.

نجحت في إقناعها بأنّ شي غيفارا أيضاً كان وسيماً، وأنّه لو عمل في

السينما لحطم أسطورة عمر الشريف.

وأنّ ليلى خالد لم تكن أقلّ جاذبية من جورجينا رزق.

ولكنها قامت بثلاث عمليّات لتشويه وجهها، كي تتمكن من مواصلة

مهمتا، أي شجاعة هذه.. لا أذكر أن امرأة عبر التاريخ شوّهت وجهها

قصداً، كي تخدم قضيّة. لا جان دارك ولا جميلة ولا أنجيلا، غير أنني

أذكر مبالغ خيالية كانت تدفعها ماري أنطوانيت من أجل ثوب سهرة

جديد. وأرقاماً أكثر جنوناً تدفعها مدام أوناسيس أرملة كينيدي سابقاً

وأرملة أوناسيس حديثاً كي تظل أنيقة وتبقى بشرتها ناعمة ويبدو فمها

أقل إتساعاً. ومبالغ أخرى لا تقل جنوناً تدفعها أميرات عربيات وزوجات

حكّام من أجل حفنة لؤلؤ نادر أو قارورة عطرٍ فريد.

ألا ترى أنّه أصبح ضروري أن أحبّ الموت

شاركها.