الفرق بين المراهقة والبلوغ 2

الخامس: المراهقة والاتجاه نحو التدين:

لقد توصلت دراسات معاصرة عديدة إلى أن المراهق في هذه المرحلة يعيش توجها نحو التدين، وهذا مما يكشف لنا عن شيء من حكمة ارتباط التكليف الشرعي بهذه المرحلة.

يبدأ المراهق في التساؤل عن نفسه من أين أنا؟
وكيف جئت؟
يبدأ يتساءل عن سر خلق الوجود والكون، ويبحث عن الإجابة التي تقنعه حول هذه التساؤلات، وقد يهتدي إلى المنهج السليم، وقد يضل ويزيغ.

ومن الظواهر الملفتة في ذلك ما نراه من بعض الشباب في هذه المرحلة، من إقبال على التدين والعبادة لله عز وجل، حتى من بعض الذين لم ينشأوا في بيئة محافظة. لكن الواقع السيئ للمجتمع كثيراً ما يفسد هذه الفطرة ويجر الشاب بعيداً عن الطريق الشرعي.

السادس: شواهد من التاريخ:

حين نقرأ في تاريخ الأمة –بالمفهوم الواسع فالأمة التي تدين بالإيمان أمة واحدة منذ آدم إلى قيام الساعة- فإننا نرى نماذج من حياة الشباب يبدو فيها الوجه الآخر للمراهقة.

فهاهم أهل الكهف فتية آمنوا بربهم في وسط مجتمع يعج بالشرك والكفر بالله تعالى، ويذكر الله قصتهم في كتابه في آيات يتلوها المسلم كل أسبوع لتكون عبرة للشباب المؤمن إلى قيام الساعة (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى* وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا).

أن قرية آمنت ودخلت في دين الله سبحانه وتعالى على يدويحكي لنا النبي شاب يعيش في هذه المرحلة التي يسمونها مرحلة المراهقة، واستطاع أن يصمد وأن يبقى بإذن الله عز وجل وتوفيقه أمام الابتلاء وأمام الإيذاء، وأن يقدم نفسه رخيصة لله سبحانه وتعالى؛ فيؤمن الناس حين رأوا ثباته وموقفه، وتبقى قصة محفوظة في ذاكرة التاريخ ويرددها الجميع، الكبار قبل الصغار.

السابع: وقفات مع شباب الصحابة:

ونقرأ حياة أصحابهحين نعود إلى سيرة النبي نرى عجبا من الشباب الذين كانوا في هذه السن، كيف كانوا في العلم والجهاد والعبادة وسائر الميادين، ولنستعرض طائفة قليلة من أخبارهم في ذلك:

فمن هؤلاء جابر بن عبدالله رضي الله عنه وهو من رواة الحديث المكثرين، كان عمره عند الهجرة ستة عشر عاما، أراد أن يحضر غزوة بدر وأحد فمنعه والده لأنه كان يريد أن يشهدها هو واستشهد والده في أحد، ثم لم يتخلف جابر –رضي الله عنه- عن غزوة بعدها.

ومنهم أيضا عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه، بايع بيعة الرضوان وعمره سبعة عشر عاماً، وأهل بيعة الرضوان هم أولئك الذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا :) وقال فيهم النبي “لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة”.

ومن شباب أصحاب النبي عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في أحد فلم يجزه ، وعرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرةوقد عرض على النبي سنة فأجازه، وهو ممن بايع تحت الشجرة، وعمره حينها ستة عشر عاماً.

ومنهم سلمة بن الأكوع –رضي الله عنه- ومواقفه :”مشهودة مشهورة، وهو صاحب غزوة ذي قرد، وهو الذي قال عنه خير رجالاتنا سلمة وخير فرساننا قتادة”، وفي غزوة حنين جاء بلحاقه فجلس معهم ساعة، ثم ولى فأمرهم النبي جاسوس من المشركين إلى أصحاب النبي فلحق به سلمة حتى أدركه وقتله.

وكثيراً ما نقرأ في السيرة استعراض النبي الناس ورده للصغار، مما يعني أن الشاب كان يَنشأ ويُنشَّأ منذ صغره على حب الجهاد ونصرة الدين.

وفي ميدان العلم كان جابر وابن عباس وأنس وابن عمر وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل رضوان الله عليهم من فقهاء ومحدثي .أصحاب النبي

ولعله أن تتاح فرصة لأن نشبع الحديث حول هذا الموضوع المتعلق إما مسموعاً أو مقروءاً بإذن الله سبحانه وتعالى (بشباب أصحاب النبي وقد تم بحمد الله بعد هذه المحاضرة بسنوات إخراج كتاب بعنوان شباب الصحابة مواقف وعبر).

الثامن: أين المشكلة في التاريخ الإسلامي؟

لو ألقيت هذا السؤال على من له أدنى صلة بالتراث الإسلامي لأجابك بالنفي مباشرة، فحين نقرأ ما سطره السلف في أي فن من فنون العلم فإننا لا نجد أثرا لهذه المشكلة، نعم قد تجدهم يوصون الشاب بالعبادة والطاعة،
لكن هل تجد الحديث المستفيض حول مشكلات الشباب وعن أزماتهم وعن عالم المراهقة الذي نعيشه الآن؟
هل تجد الحديث عن انحراف الشباب وانتكاستهم؟

لقد كان الشباب آنذاك في حلق العلم ومجالسه، فما إن يبلغ أحدهم السابعة أو الثامنة حتى تراه قد أتم حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، أو قطع مرحلة فيه، ثم أصبح يثني ركبه في مجالس العلم مستمعاً ومقيدا لما يسمعه، ولهذا فقد كان الحديث عن سماع الصغير، ورواية الصغير، وحضوره مجالس العلم، كان الحديث عن ذلك يأخذ حيزاً واسعاً من حديثهم عن الشباب .

هكذا كان الشباب في سلف الأمة، وهذا يعني بالضرورة أن هذه المشكلة لم تكن موجودة عند سلفنا، فأنت تجد الحديث عن صبوة الشباب وتصابي الشيوخ، لكنها لم تكن بهذا القدر وهذا الحجم الذي نعيشه اليوم، بل ولا قريباً منه.

وهذا يعني أن واقع الشاب اليوم إنما هو نتاج طبيعي للمرحلة التي يعيشها، بل ثمة عوامل عدة أسهمت في معاناة المراهق وصبوته.

التاسع : مع النماذج المعاصرة؟

إننا ومع ما نعيش الآن من أزمات المراهقين ومشكلاتهم، إلا أننا نرى نماذج تثبت خطأ هذه النظرة.

فمن هم عمار المساجد؟
ومن حفاظ القرآن الكريم؟
ومن رواد مجالس العلم ودروس العلماء؟

لو تأملت في حفاظ القرآن الكريم لرأيت عامتهم في هذا السن، ولو أجريت جولة سريعة على مجالس العلم لرأيت أن معظم روادها من هؤلاء.

وفي عالم الجهاد لم ننسى جميعا كم هم الشباب المراهقون الذين دفنوا هناك في بلاد العجم في حين كان أقرانهم وأترابهم يسافرون إلى حيث الفساد والرذيلة.

لقد كان المسلمون يظنون أن تلك القصص والروايات التي تروى عن البطولات وعن الشهادة قد أغلق عليها في كتاب لن يفتح أبدا، إنما سيبقى حبيساً في ذاكرة التاريخ.

العاشر: شواهد من علم النفس المعاصر:

حقيقة أخرى نختم بها هذا الحديث، فكثير من علماء النفس وعلماء التربية اليوم يشككون في صحة هذه الدعوى، ويرون أنها مبالغ فيها.

ومن علماء النفس المعاصرين الذين ناقشوا في مدى مصداقية مقولة أزمة المراهقة امرأة غربية اسمها (مارجرت ميد) فهي تعتبر المراهقة مرحلة نمو عادي، ومادام هذا النمو يسر في مجراه الطبيعي لا يتعرض المراهق لأزمات، وقد اهتمت هذه المرأة بدراسة المجتمعات البدائية، تقول: وفي هذه المجتمعات تختفي مرحلة المراهقة، وينتقل الفرد من الطفولة إلى الرشد بعد احتفال تقليدي.

ويقول الدكتور عبدالرحمن العيسوي: جدير بالذكر أن النمو في مرحلة المراهقة لايؤدي بالضرورة إلى أزمات، ولكن النظم الحديثة هي المسؤولة عن أزمة المراهقة.

ويقول الدكتور ماجد الكيلاني:”وقد أفرز فقدان ذلك مضاعفات سلبية في حياة الناشئة أهمها ما سماه فقهاء التربية الحديثة بالمراهقة، وهذه فتوى خاطئة أصدرها علماء النفس المحدثون تبريرا للسياسات الجائرة التي يمارسها مترفو العصر من أصحاب الرأسمالية والشركات الدولية، المراهقة ليست ظاهرة حتمية في تطور العمر الزمني للإنسان إنها مشكلة يمكن تجنبها كليا في حياة الفرد، وألا يمر بها الإنسان أبدا وهي من مزاعم علماء النفس في المجتمعات الصناعية الرأسمالية، ومرض من أمراضه الاجتماعية”
خلاصة الموقف من مشكلات المراهقة:

إنه لا اعتراض على أن هذه المرحلة مرحلة صعبة، بل هي من أصعب مراحل العمر، ولا على أن كثيراً من مشكلات الشباب وأزماتهم تقع في هذه المرحلة، إنما اعتراضنا ينصب في أمور:

الأول: إهمال الوجه الآخر؛ وهو أن المراهقة مرحلة التكليف الشرعي ودخول الشاب إلى عالم الرجال.

الثاني: إهمال البعد الديني وإقبال المراهق على التدين والعبادة.

الثالث: افتراض أن مشكلات المراهقة ملازمة لهذه المرحلة، وليست نتاج الواقع المعاصر والأخطاء التربوية التي تمارسها التربية المعاصرة.

الرابع: اعتقاد أن الشاب معذور فيما يأتيه من الصبوة والانحراف بحجة كونه مراهقاً.

إننا بحاجة إلى أن يعيد الآباء والمربون والمعلمون نظرتهم للمراهقين، وحينها سيعيدون تعاملهم معهم على أساس هذه النظرة، وبحاجة إلى أن يعيد أهل التوجيه في مجتمعات المسلمين من رجال التربية والتعليم النظر فيما يقدم للشباب والفتيات في مجتمعات المسلمين.

وسيواجهون صعوبات في تربيتهم والتعامل معهم، لكن هذا لا يعني أن الأمر مستحيل، ولا أن ما يقع فيه المراهق أمر طبعي لا ينبغي أن يؤاخذ عليه، وفرق بين سلوك أسلوب الحكمة في العلاج والتصحيح، وبين الإهمال والتماس العذر للخطأ.

مسؤولية المجتمعات المعاصرة عن مشكلات المراهقين:

إن مانعانيه اليوم من أزمات ومشكلات في عالم المراهقين، إنما هو نتاج التربية المعاصرة، ولقد تركت المجتمعات المعاصرة أثرها عليهم من خلال جوانب عدة، منها:

الأول: تلقي العلوم الإنسانية عن العالم الغربي تلقياً حرفيًّا، وسيطرة المعايير الغربية في الحكم على الانحراف والسواء، ولهذا صار الوالدان وصار أهل التربية يتعاملون مع الشاب ومع الفتاة في هذه المرحلة وهذا السن على أنهم معذورون لكونهم مراهقين، وصارت كثيراً من المظاهر التي تعد انحرافاً بالمعيار الشرعي مظاهر عادية عند هؤلاء.

الأمر الثاني: نظام التعليم المعاصر في المجتمعات يسهم في طول مرحلة المراهقة؛ وذلك أن الشاب يعيش في التعليم إلى أن يصل إلى سن الثانية والعشرين، يعيش أولا بعيدا عن الزواج وتحمل المسؤولية، ثم هو خلال هذه المرحلة يعتمد على أبويه اعتمادا تاما، بل حتى نظم التعليم يعيش فيها الطالب على التسول العلمي، فهو يتلقى المعلومة جاهزة من أستاذه الذي هو الآخر يلقيها كما جاءت في الكتاب، فلا يمارس الطالب جهده في اكتشاف المادة العلمية، لا يمارس جهدا ذاتياً في التعلم، وغاية ما يقوم به الاستماع الجيد وأن يحفظ ما في الكتاب، ثم يعبر عنه بعد ذلك في الامتحان، وهذا يولد شخصية ونفسية تعتمد على الغير.

الأمر الثالث: الإثارة والمغريات وحياة الترف المعاصر، وقد صارت الأجهزة الإعلامية تبالغ في إثارة الفتنة أمام المراهقين والمراهقات، فتصور غرف النوم تصويرا فاضحا، وتصور العملية الجنسية أمامهم بكل وقاحة، وحتى أصحاب السلع المادية لاتروج سلعهم إلا من خلال استخدام الإغراء والإثارة في الإعلان والدعاية؛ فأنتج ذلك جيلاً من المراهقين والمراهقات تأسره الغريزة ويلهث وراءها.

الأمر الرابع: غياب التوجيه والقدوة أمام الشباب والفتيات، فالنماذج التي تُبرز أمامهم هم أهل الفن والرياضة وأهل المجون والفساد.

هذه العوامل وغيرها لها أثرها البالغ في حياة المراهقين والمراهقات في هذا العصر الذي نعيشه، ولو أصلحنا تربيتنا لكان لهم شأنه آخر.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحمينا وإياكم من أسباب الفساد، وأن يصلح ذرياتنا، وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب

زر الذهاب إلى الأعلى