سورة الكهف جمعة طيبة

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)
التعريف بسورة الكهف القصص هو العنصر الغالب في هذه السورة . ففي أولها تجيء قصة أصحاب الكهف , وبعدها قصة الجنتين , ثم إشارة إلى قصة آدم وإبليس . وفي وسطها تجيء قصة موسى مع العبد الصالح . وفي نهايتها قصة ذي القرنين . ويستغرق هذا القصص معظم آيات السورة , فهو وارد في إحدى وسبعين آية من عشر ومائة آية ; ومعظم ما يتبقى من آيات السورة هو تعليق أو تعقيب على القصص فيها . وإلى جوار القصص بعض مشاهد القيامة , وبعضمشاهد الحياة التي تصور فكرة أو معنى , على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير .
أما المحور الموضوعي للسورة والذي ترتبط به موضوعاتها , ويدور حوله سياقها , فهو تصحيح العقيدة وتصحيح منهج النظر والفكر . وتصحيح القيم بميزان هذه العقيدة .
فأما تصحيح العقيدة فيقرره بدؤها وختامها .
في البدء: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا . قيما . لينذر بأسا شديدا من لدنه ; ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا:اتخذ الله ولدا . ما لهم به من علم ولا لآبائهم . كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا).
وفي الختام:(قل:إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد , فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا).
وهكذا يتساوق البدء والختام في إعلان الوحدانية وإنكار الشرك , وإثبات الوحي , والتمييز المطلق بين الذات الإلهية وذوات الحوادث .
ويلمس سياق السورة هذا الموضوع مرات كثيرة في صور شتى:
في قصة أصحاب الكهف يقول الفتية الذين آمنوا بربهم: ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها , لقد قلنا إذا شططا .
وفي التعقيب عليها: (ما لهم من دونه من ولي , ولا يشرك في حكمه أحدا). .
وفي قصة الجنتين يقول الرجل المؤمن لصاحبه وهو يحاوره: أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا , لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا .
وفي التعقيب عليها:(ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا , هنالك الولاية لله الحق , هو خير ثوابا وخير عقبا).
وفي مشهد من مشاهد القيامة:(ويوم يقول:نادوا شركائي الذين زعمتم , فدعوهم فلم يستجيبوا لهم , وجعلنا بينهم موبقا).
وفي التعقيب على مشهد آخر:(أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ? إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا).
أما تصحيح منهج الفكر والنظر فيتجلى في استنكار دعاوى المشركين الذين يقولون ما ليس لهم به علم , والذين لا يأتون على ما يقولون ببرهان . وفي توجيه الإنسان إلى أن يحكم بما يعلم ولا يتعداه , وما لا علم له به فليدع أمره إلى الله .
ففي مطلع السورة: (وينذر الذين قالوا:اتخذ الله ولدا , ما لهم به من علم ولا لآبائهم)
والفتية أصحاب الكهف يقولون: (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة . لولا يأتون عليهم بسلطان بين !)وعندما يتساءلون عن فترة لبثهم في الكهف يكلون علمها لله: (قالوا:ربكم أعلم بما لبثتم).
وفي ثنايا القصة إنكار على من يتحدثون عن عددهم رجما بالغيب: (سيقولون:ثلاثة رابعهم كلبهم ; ويقولون:خمسة سادسهم كلبهم – رجما بالغيب – ويقولون:سبعة وثامنهم كلبهم . قل:ربي أعلم بعدتهمما يعلمهم إلا قليل ; فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا , ولا تستفت فيهم منهم أحدا).
وفي قصة موسى مع العبد الصالح عندما يكشف له عن سر تصرفاته التي أنكرها عليه موسى يقول: (رحمة من ربك وما فعلته عن أمري)فيكل الأمر فيها لله .
فأما تصحيح القيم بميزان العقيدة , فيرد في مواضع متفرقة , حيث يرد القيم الحقيقية إلى الإيمان والعمل الصالح , ويصغر ما عداها من القيم الأرضية الدنيوية التي تبهر الأنظار .
فكل ما على الأرض من زينة إنما جعل للابتلاء والاختبار , ونهايته إلى فناء وزوال:(إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا , وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا).
وحمى الله أوسع وأرحب , ولو أوى الإنسان إلى كهف خشن ضيق . والفتية المؤمنون أصحاب الكهف يقولون بعد اعتزالهم لقومهم:(وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون – إلا الله – فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته , ويهيئ لكم من أمركم مرفقا)
والخطاب يوجه إلى الرسول [ ص ] ليصبر نفسه مع أهل الإيمان ; غير مبال بزينة الحياة الدنيا وأهلها الغافلين عن الله (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه , ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا , ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ; واتبع هواه وكان أمره فرطا . وقل:الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).
وقصة الجنتين تصور كيف يعتز المؤمن بإيمانه في وجه المال والجاه والزينة . وكيف يجبه صاحبها المنتفش المنتفخ بالحق , ويؤنبه على نسيان الله: ال له صاحبه وهو يحاوره:أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ? لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا . ولولا إذ دخلت جنتك قلت:ما شاء الله , لا قوة إلا بالله . إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا . فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك , ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا , أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا .
وعقب القصة يضرب مثلا للحياة الدنيا وسرعة زوالها بعد ازدهارها:(واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء , فاختلط به نبات الأرض , فأصبح هشيما تذروه الرياح , وكان الله على كل شيء مقتدرا).
ويعقب عليه ببيان للقيم الزائلة والقيم الباقية:(المال والبنون زينة الحياة الدنيا , والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا).
وذو القرنين لا يذكر لأنه ملك , ولكن يذكر لأعماله الصالحة . وحين يعرض عليه القوم الذين وجدهم بين السدين أن يبني لهم سدا يحميهم من يأجوج ومأجوج في مقابل أن يعطوه مالا , فإنه يرد عليهم ما عرضوه من المال , لأن تمكين الله له خير من أموالهم (قال:ما مكني فيه ربي خير). وحين يتم السد يرد الأمر لله لا لقوته البشرية:(قال:هذا رحمة من ربي , فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا).
وفي نهاية السورة يقرر أن أخسر الخلق أعمالا , هم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ; وهؤلاء لا وزن لهم ولا قيمة وإن حسبوا أنهم يحسنون صنعا:(قل:هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ? أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا).
وهكذا نجد محور السورة هو تصحيح العقيدة . وتصحيح منهج الفكر والنظر . وتصحيح القيم بميزان العقيدة .
ويسير سياق السورة حول هذه الموضوعات الرئيسية في أشواط متتابعة:
تبدأ السورة بالحمد لله الذي أنزل على عباده الكتاب للإنذار والتبشير . تبشير المؤمنين وإنذار الذين قالوا:اتخذ الله ولدا ; وتقرير أن ما على الأرض من زينة إنما هو للابتلاء والاختبار , والنهاية إلى زوال وفناء . . ويتلو هذا قصة أصحاب الكهف . وهي نموذج لإيثار الإيمان على باطل الحياة وزخرفها , والالتجاء إلى رحمة الله في الكهف , هربا بالعقيدة أن تمس .
ويبدأ الشوط الثاني بتوجيه الرسول [ ص ] أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه , وأن يغفل الغافلين عن ذكر الله . . ثم تجيء قصة الجنتين تصور اعتزاز القلب المؤمن بالله , واستصغاره لقيم الأرض . . وينتهي هذا الشوط بتقرير القيم الحقيقية الباقية .
والشوط الثالث يتضمن عدة مشاهد متصلة من مشاهد القيامة تتوسطها إشارة قصة آدم وإبليس . . وينتهي ببيان سنة الله في إهلاك الظالمين , ورحمة الله وإمهاله للمذنبين إلى أجل معلوم .
وتشغل قصة موسى مع العبد الصالح الشوط الرابع . وقصة ذي القرنين الشوط الخامس .
ثم تختم السورة بمثل ما بدأت:تبشيرا للمؤمنين وإنذارا للكافرين , وإثباتا للوحي وتنزيها لله عن الشريك . فلنأخذ في الشوط الأول بالتفصيل:
الدرس الأول:1 – 5 القرآن بين التبشير والإنذار وذم الكفار
(الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا . قيما . لينذر بأسا شديدا من لدنه , ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا , وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا , ما لهم به من علم ولا لآبائهم . كبرت كلمة تخرج من أفواههم . إن يقولون إلا كذبا . فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا . . إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا , وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا). . .
بدء فيه استقامة , وفيه صرامة . وفيه حمد لله على إنزاله الكتاب (على عبده)بهذه الاستقامة , لا عوج فيه ولا التواء , ولا مداراة ولا مداورة: (لينذر بأسا شديدا من لدنه).
ومنذ الآية الأولى تتضح المعالم , فلا لبس في العقيدة ولا غموض:الله هو الذي أنزل الكتاب , والحمد له على تنزيله . ومحمد هو عبد لله . فالكل إذن عبيد , وليس لله من ولد ولا شريك .
والكتاب لا عوج له . .(قيما). . يتكرر معنى الاستقامة مرة عن طريق نفي العوج , ومرة عن طريق إثبات الاستقامة . توكيدا لهذا المعنى وتشديدا فيه .
والغرض من إنزال الكتاب واضح صريح: (لينذر بأسا شديدا من لدنه , ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا).
ويغلب ظل الإنذار الصارم في التعبير كله . فهو يبدأ به على وجه الإجمال: (لينذر بأسا شديدا من لدنه). ثم يعود إليه على وجه التخصيص:(وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا). . وبينهما تبشير للمؤمنين (الذين يعملون الصالحات)بهذا القيد الذي يجعل للإيمان دليله العملي الظاهر المستند إلى الواقع الأكيد .
مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً (8)
ثم يأخذ في كشف المنهج الفاسد الذي يتخذونه للحكم على أكبر القضايا وأخطرها . قضية العقيدة:
(ما لهم به من علم ولا لآبائهم). .
فما أشنع وما أفظع أن يفضوا بهذا القول بغير علم , هكذا جزافا:
(كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا). .
وتشترك الألفاظ بنظمها في العبرة وجرسها في النطق في تفظيع هذه الكلمة التي يقولونها . فهو يبدأ بكلمة(كبرت)لتجبه السامع بالضخامة والفظاعة وتملأ الجو بهما . ويجعل الكلمة الكبيرة تمييزا لضميرها في الجملة: (كبرت كلمة)زيادة في توجيه الانتباه إليها . ويجعل هذه الكلمة تخرج من أفواههم خروجا كأنما تنطلق منها جزافا وتندفع منها اندفاعا (تخرج من أفواههم). وتشارك لفظة(أفواههم)بجرسها الخاص في تكبير هذه الكلمة وتفظيعها , فالناطق بها يفتح فاه في مقطعها الأول بما فيه من مد:(أفوا . . .)ثم تتوالى الهاءان فيمتلى ء الفم بهما قبل أن يطبق على الميم في نهاية اللفظة:(أفواههم). وبذلك يشترك نظم الجملة وجرس اللفظة في تصوير المعنى ورسم الظل . ويعقب على ذلك بالتوكيد عن طريق النفي والاستثناء: (إن يقولون إلا كذبا):ويختار للنفي كلمة:(إن)لا كلمة “ما” لأن في الأولى صرامة بالسكون الواضح , وفي لفظ “ما” شيء من الليونة بالمد . . وذلك لزيادة التشديد في الاستنكار , ولزيادة التوكيد لكذب هذه الكلمة الكبيرة . .
الدرس الثاني:6 – 8 مواساة الرسول على ما يلاقيه من قومه والإبتلاء بالحياة الدنيا
وفيما يشبه الإنكار يخاطب الرسول [ ص ] الذي كان يحزنه أن يكذب قومه بالقرآن ويعرضوا عن الهدى , ويذهبوا في الطريق الذي يعلم [ ص ] أنه مود بهم إلى الهلاك . . فيما يشبه الإنكار يقول للرسول [ ص ]:
(فلعلك باخع نفسك على آثارهم . إن لم يؤمنوا بهذا الحديث . أسفا)!
أي فلعلك قاتل نفسك أسفا وحزنا عليهم , إن لم يؤمنوا بهذا القرآن . وما يستحق هؤلاء أن تحزن عليهم وتأسف . فدعهم فقد جعلنا ما على الأرض من زخرف ومتاع , وأموال وأولاد . . جعلناه اختبارا وامتحانا لأهلها , ليتبين من يحسن منهم العمل في الدنيا , ويستحق نعمتها , كما يستحق نعيم الآخرة:
(إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا).
والله يعلم . ولكنه يجزي على ما يصدر من العباد فعلا , وما يتحقق منهم في الحياة عملا . ويسكت عمن لا يحسنون العمل فلا يذكرهم لأن مفهوم التعبير واضح .
ونهاية هذه الزينة محتومة . فستعود الأرض مجردة منها , وسيهلك كل ما عليها , فتصبح قبل يوم القيامة سطحا أجرد خشنا جديا:
(وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا). .
وفي التعبير صرامة , وفي المشهد الذي يرسمه كذلك . وكلمة(جرزا)تصور معنى الجدب بجرسها اللفظي . كما أن كلمة(صعيدا)ترسم مشهد الاستواء والصلادة !
ثم تجيء قصة أصحاب الكهف , فتعرض نموذجا للإيمان في النفوس المؤمنة . كيف تطمئن به , وتؤثره على زينة الأرض ومتاعها , وتلجأ به إلى الكهف حين يعز عليها أن تعيش به مع الناس . وكيف يرعى الله هذه
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
النفوس المؤمنة , ويقيها الفتنة , ويشملها بالرحمة .
وفي القصة روايات شتى , وأقاويل كثيرة . فقد وردت في بعض الكتب القديمة وفي الأساطير بصور شتى . ونحن نقف فيها عند حد ما جاء في القرآن , فهو المصدر الوحيد المستيقن . ونطرح سائر الروايات والأساطير التي اندست في التفاسير بلا سند صحيح . وبخاصة أن القرآن الكريم قد نهى عن استفتاء غير القرآن فيها , وعن المراء فيها والجدل رجما بالغيب .
وقد ورد في سبب نزولها ونزول قصة ذي القرنين أن اليهود أغروا أهل مكة بسؤال الرسول [ ص ] عنهما وعن الروح . أو أن أهل مكة طلبوا إلى اليهود أن يصوغوا لهم أسئلة يختبرون بها الرسول [ ص ] وقد يكون هذا كله أو بعضه صحيحا . فقد جاء في أول قصة ذي القرنين:(ويسألونك عن ذي القرنين . قل:سأتلو عليكم منه ذكرا)ولكن لم تجيء عن قصة أصحاب الكهف مثل هذه الإشارة . فنحن نمضي في القصة لذاتها وهي واضحة الارتباط بمحور السورة كما بينا .
الدرس الثالث:9 – 16 ملخص قصة أصحاب الكهف ثم عرض بداية قصتهم
إن الطريقة التي اتبعت في عرض هذه القصة من الناحية الفنية هي طريقة التلخيص الإجمالي أولا , ثم العرض التفصيلي أخيرا . وهي تعرض في مشاهد وتترك بين المشاهد فجوات يعرف ما فيها من السياق . وهي تبدأ هكذا:
م حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا . إذ أوى الفتية إلى الكهف , فقالوا:ربنا آتنا من لدنك رحمة , وهيء لنا من أمرنا رشدا . فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا , ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا .
وهي تلخيص يجمل القصة , ويرسم خطوطها الرئيسية العريضة . فنعرف أن أصحاب الكهف فتية لا نعلم عددهم – آووا إلى الكهف وهم مؤمنون . وأنه ضرب على آذانهم في الكهف أي ناموا – سنين معدودة – لا نعلم عددها – وأنهم بعثوا من رقدتهم الطويلة . وأنه كان هناك فريقان يتجادلان في شأنهم ثم لبثوا في الكهف فبعثوا ليتبين أي الفريقين أدق إحصاء . وأن قصتهم على غرابتها ليست بأعجب آيات الله . وفي صفحات هذا الكون من العجائب وفي ثناياه من الغرائب ما يفوق قصة أصحاب الكهف والرقيم .
وبعد هذا التلخيص المشوق للقصة يأخذ السياق في التفصيل . ويبدأ هذا التفصيل بأن ما سيقصه الله منها هو فصل الخطاب في الروايات المتضاربة , وهو الحق اليقين:
حن نقص عليك نبأهم بالحق . إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى . وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا:ربنا رب السماوات والأرض , لن ندعو من دونه إلها . لقد قلنا إذن شططا . هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة . لولا يأتون عليهم بسلطان بين . فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ? وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون – إلا الله – فأووا إلى الكهف , ينشر لكم ربكم من رحمته , ويهيء لكم من أمركم مرفقا .
هذا هو المشهد الأول من مشاهد القصة . (إنهم فتية آمنوا بربهم). . (وزدناهم هدى)بإلهامهم كيف
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً (14) هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً (16)
يدبرون أمرهم . (وربطنا على قلوبهم)فإذا هي ثابتة راسخة , مطمئنة إلى الحق الذي عرفت . معتزة بالإيمان الذي اختارت (إذ قاموا). . والقيام حركة تدل على العزم والثبات . (فقالوا:ربنا رب السماوات والأرض). . فهو رب هذا الكون كله (لن ندعو من دونه إلها). . فهو واحد بلا شريك . (لقد قلنا إذن شططا). . وتجاوزنا الحق وحدنا عن الصواب .
ثم يلتفتون إلى ما عليه قومهم فيستنكرونه , ويستنكرون المنهج الذي يسلكونه في تكوين العقيدة:
(هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة . لولا يأتون عليهم بسلطان بين ?). .
فهذا هو طريق الاعتقاد:أن يكون للإنسان دليل قوي يستند إليه , وبرهان له سلطان على النفوس والعقول . وإلا فهو الكذب الشنيع , لأنه الكذب على الله: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ?). .
وإلى هنا يبدو موقف الفتية واضحا صريحا حاسما , لا تردد فيه ولا تلعثم . . إنهم فتية , أشداء في أجسامهم , أشداء في إيمانهم . أشداء في استنكار ما عليه قومهم . .
ولقد تبين الطريقان , واختلف المنهجان . فلا سبيل إلى الالتقاء , ولا للمشاركة في الحياة . ولا بد من الفرار بالعقيدة . إنهم ليسوا رسلا إلى قومهم فيواجهوهم بالعقيدة الصحيحة ويدعوهم إليها , ويتلقوا ما يتلقاه الرسل . إنما هم فتية تبين لهم الهدى في وسط ظالم كافر , ولا حياة لهم في هذا الوسط إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروا بها , وهم لا يطيقون كذلك أن يداروا القوم ويراوردهم , ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة على سبيل التقية ويخفوا عبادتهم لله . والأرجح أن أمرهم قد كشف . فلا سبيل لهم إلا أن يفروا بدينهم إلى الله , وأن يختاروا الكهف على زينة الحياة . وقد أجمعوا أمرهم فهم يتناجون بينهم:
وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون – إلا الله – فأووا إلى الكهف , ينشر لكم ربكم من رحمته , ويهيء لكم من أمركم مرفقا . .
وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة . فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم , ويهجرون ديارهم , ويفارقون أهلهم . ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة . هؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم . هؤلاء يستروجون رحمة الله . ويحسون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة . (ينشر لكم ربكم من رحمته)ولفظة(ينشر)تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح . فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها

زر الذهاب إلى الأعلى