العباءة – غطاء يحمل ثقافة شعبية مغربية

ناسمي محمد – كاتب وباحث في التراث الشعبي من المغرب 

 

مقدمة:

تعتبر صناعة العبائن ، من الصناعات الشعبية الخاصة بالنساء في منطقة دكالة المغربية، والتي تتميز بكونها ترتبط بشبكة من العلاقات مع باقي عناصر الثقافة الشعبية الأخرى، سواء معتقدات شعبية، عادات وتقاليد، أدب شعبي، ثقافة مادية…، وبذلك فهي تدخل ضمن نظام تراثي هو عبارة عن تجمع لمجموعة من العناصر التراثية تتفاعل مع بعضها البعض، وكُلٌّ متكامل، لا مجال فيه للبتر والفصل والتقسيم، ويأتي هذا المقال للكشف عن هذه الحرفة الشعبية وتوثيقها كوحدةً ثقافية، باعتبارها انعكاسا لمكون ثقافي مغربي بمختلف مكوناته، وتجاوز دراستها باعتبارها حرفة شعبية مغلقة، والتركيز فقط على جانب واحد ألا وهو المعارف والمهارات والأدوات التي تعتمد عليها، في مقابل تهميش وإقصاء باقي العناصر الأخرى، لأن هذا النوع من التوثيق لا يخدم عملية حماية التراث الشعبي بشكل عام.

ما هي العباءة؟:

العباءة وجمعها عبائن، وتطلق عليها أيضـًا أسماء أخرى؛ كالحنبل، والحرشيش، والغطاية، والبطانية، هي غطاء منسوج من صوف متينة خيوطه،  و”كانت تستعمل كفراش وأحيانا كان الطرف الثاني يستعمل منها كغطاء، ولهذا كانت سميكة وثقيلة شبيهة بالبساط الصوفي الزربية (1) تعطي دفئـًا كبيرًا لمستعمليها خاصة أثناء فصل الشتاء البارد.

وتتميز العبائن ببساطة ألوانها وأشكالها ورسوماتها، والتي هي في الغالب عبارة عن أشرطة بألوان مختلفة،عكس الزربية التي تتميز بزهاء زخارفها، وهي تشبه إلى حد كبير “الحائك في طوله وعرضه ومميزاته العامة، وقد تكون أكبر منه في الطول والعرض ونصاعة الألوان، والفرق بين الحنبل والحائك أن الأول فراش وغطاء والثاني لباس”(2)
مراحل صناعة العبائن:
تمر عملية نسج العباءة الدكالية شأنها شأن الحائك والزربية بعدة مراحل، بداية بعملية جز صوف الخرفان الحية، وعند الانتهاء من الجز تأخذ النسوة الصوف وتغسله من الأوساخ والشوائب الملتصقة به، ثم يتم تجفيفه تحت أشعة الشمس، بعدها تأتي عملية فرزه حسب النوع واللون، وللحصول على صوف ناعم ولين تقوم النساء بعملية التمشيط والقرشلة حتى يسهل غزله فيما بعد.

وأثناء الغزل يتم تحويل الصوف الممشط إلى خيوط المغزل ، هذه الخيوط هي التي تستعمل في نسج العباءة.

بعد الفراغ من الغزل يبدأ نصب آلة النسج (المنسج)، الذي يتكون من إطارين من الخشب أفقيان وآخران عموديان، وعندها تبدأ عملية نسج العباءة التي تسمى أيضًـا بالتسدية، عبر شد خيوط متينة عموديـًا وتمرير كل مرة خيوط بشكل أفقي وضربها بالخلالة لتثبيتها. 

العادات المرتبطة بنسج العبائن:

ترتبط بنسج العبائن مجموعة من العادات، ومن أبرزها:

بعد الاتفاق على ثمن النسج يتم إضافة المرأة المكلفة بالنسج هدية تسمى في المغرب “البْياضْ” عبارة عن مواد غذائية تكون في الغالب علبتي سكر وشاي وقنينة زيت.

إذا كانت النساء يقمن بنسج غطاء العباءة أمام بيت (الخيمة)أي شخص من المارة تصيح النسوة في وجهه “رجليك معلـﯕـة “ (3)من أجل وضع البياض الذي يكون عبارة عن نقود معدنية أو قطع من السكر.

 وعند نهاية النسج في مساء كل يوم تتحلق النسوة على صينية الشاي والسمن والخبز لتناول العصرونية، والاستراحة من عناء العمل وتبادل أطراف الحديث حول عملية النسج.(4)
وتعتبر العبائن في منطقة دكالة من أهم ما تأتي به العروس لبيت زوجها، وكانت في القديم هي من تقوم بنسجها، دلالة على حذقها ونضجها وقدرتها على تحمل أعباء المنزل بعد زوجها.

ومن العادات المنقرضة في منطقة دكالة أن نسيج العباءة عند الحاجة كان يخاط ويحول إلى جلباب ثقيل ودافئ يرتديه الرجال للحماية من قسوة البرد.
المعتقدات المرتبطة بنسج العبائن:

ترتبط  العبائن بامتزاج للمعتقدات الإسلامية والمعتقدات الشعبية، كمؤشر لاستمرار البقايا الوثنية في المعتقد الإسلامي الشعبي للمغاربة، “هذه المعتقدات في الأصل معتقدات دينية (إسلامية أو مسيحية أو غير ذلك)، ثم تحولت في صدور الناس إلى أشكال أخرى جديدة بفعل التراث القديم الكامن على مدى الأجيال، فلم تعد بذلك معتقدات دينية رسمية بالمعنى الصحيح ” (5) ، ومن هذه المعتقدات نجد:

عند بداية النسج في كل يوم تقول النسوة “آبركة الله، آرجال الله الصالحين، ثم تبدأ بالدعاء، ذكر الله، أما عند الانتهاء من نسج العباءة تقول: “أشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، ما ﯕرجناك تاﯕرجك آجلك.”(6)
عند بداية تركيب المنسج تتعوذ النساء من الشيطان الرجيم، ويتم كل يوم رش الملح ووضع قطع من سكر القالب تحت المنسج ، ووضعها أيضـًا عند كبات خيوط الصوف، كما يمنع الأطفال الصغار من تخطي المنسج لأن المنسج سيتعطل ” المنجج أيولي معـﯕاز” (7) ، وهي كلها طقوس تتوخى من خلالها المرأة الدكالية اتقاء العين والحسد والأرواح الشريرة التي يمكن أن تعرقل عملية نسج العباءة وتأخرها.

ومن المعتقدات القديمة والتي هي من البقايا الوثنية المرتبطة بالأرواحية، والتي تعتقد بأن الأرواح تملأ العالم وبأنها يمكن أن تحل في أي شيء، نجد عند نهاية عملية النسج يتم اغتسال المرأة من روح المنسج التي كانت قد حلت بها، ليمكن لها بدأ العمل في التحضير لعملية نسج جديدة، وأيضـًا تحريم عمل المرأة في منسجين اثنين في آن واحد لأن روح المنسج الأول تبقى عالقة فيها.

       وعند نسج العباءة واستعمالها  حتى تصبح بالية، يحرم  حرقها بالنار أو أن تغلق بقطعها الأفرنة التقليدية (8)

العباءة في الأدب الشعبي المغربي:

تكمن قيمة أي مجتمع من مجتمعات في قيمة إبداعاته في شتى المجالات، ومنها مجال الأدب الشعبي الذي يصور من خلاله عاداته، ومعتقداته، ونظام عيشه، وهمومه، وطموحاته…، وهذا ما يجعل الأدب الشعبي متداخلاً مع باقي فروع التراث الشعبي المختلفة، فمثلا العباءة حاضرة في مجموعة من أشكال الأدب الشعبي المغربي. 

فقد ضربت عدة أمثال شعبية كلها تم استيقاؤها من العبائن وصناعتها، وذلك للتمثيل بين الحالة الواقعة والمثل الذي ضرب فيها، وكذلك للتعريض دون التصريح، وهو بذلك أبلغ في توضيح المواقف ولإعطاء جاذبية أكثر في الحديث، ومن الأمثال شعبية نسوق ما يلي:

صوف أَو خروف أو كلها باه معروف.

تْهَلى فْالزرع والصوف وْشي لاخور غير هْتوف.

 اللي تْطوف ما تْغزل صوف.

عبانة فوق عبانة والركيبة عريانة.

 على قد لحافك مد رجليك.

الخدمة جات يا الراجل طيح الباب وردها مغازل.

عطاونا ثلث كواش منهم غطا أو فراش.

أما الألغاز الشعبية فقد ركزت على الأدوات التي تستعملها النسوة في صنع العبائن، “هذه الألغاز عادة هي في شكل كلمات مسجوعة أو منظومة تلقى في المجالس العامة والخاصة في قالب أسئلة لاختبار الذكاء فتذكر الصفات البعيدة والقريبة” (9)
هاتو بن هات وجا لقا لغدا فاتو برك اندب فحنيكاتو (القرشال(

 

سقيرنة جارا مصيرنة، يظل مكسي ويصبح عريان: (المغزل)

 

عندنا قطيع كبير،  والحساب ما نحسبوه ولي مشات نعرفوها ؟ (المنسج)


أخطار انقراض صناعة العبائن:

لكن صناعة العبائن في منطقة دكالة المغربية تواجهها اليوم عدة مشاكل تهددها بالانقراض، وأهمها:

 – غزو البطانيات العصرية الحديثة ذات الثمن الزهيد .

– عزوف النساء عن الاشتغال في نسج  العبائن لصعوبته وطول المدة التي تتطلبها عملية النسج.

– ضعف وتراجع مداخيل بيع العبائن.

– صعوبة تسويق العبائن.

خاتمة:

إن دراسة وتوثيق العباءة المغربية بمنطقة دكالة المغربية، يوضح أن هذه الحرفة النسائية تتجاوز كونها حرفة شعبية، إلى اعتبارها جزءا من نسق ثقافي شعبي مغربي تتفاعل في إطاره مجموعة من العناصر سواء المادية أو غير المادية عبر علاقات متشابكة ومتداخلة، وعليه فإذا انقرضت صناعة العبائن فستنقرض معها مجموعة من العادات والتقاليد، والمعتقدات…، المرتبطة بها.



(1) أحمد بوشرب، دكالة والاستعمار البرتغالي إلى سنة إخلاء آسفي وأزمور، ط1، دار الثقافة، البيضاء، 1984. ص 111.

(2)  أحمد بوشرب،، مادة الحنبل، معلمة المغرب، ج 11، الجمعية المغربية للتأليف والنشر، مطابع سلا، 2002، ص 3618.
(3) بمعنى قدميك معلقة.
(4) مقابلة ميدانية بتاريخ 8 أكتوبر 2015. زهرة الزوبير، السن 50 سنة، دوار أولاد علي الصخور، منطقة دكالة، المغرب، بدأت عمل العبائن منذ سن 6 سنوات.
(5) الجوهري، محمد، الدراسات العلمية للمعتقدات الشعبية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ط 3، 1993، ص 46.
(6) ﯕرج كلمة تعني في العامية المغربية عملية القطع.
(7)  أي أن عملية نسج لعباءة ستصبح جد بطيئة
(8)  المادة الإثنوغرافية التي في المقال تم جمعها سنة 2016 من العمل الميداني أثناء الإعداد لرسالة الماجستير حول موضوع توثيق الكنوز البشرية الحية بإقليم سيدي بنور، التي تمت مناقشتها شهر يوليوز 2016، بجامعة الحسن الثاني، كلية الآداب بنمسيك.
(9) رتيبة الطالبة، الألغاز الشعبية في مدينة قسنطينة، دراسة إحصائية تحليلية، مذكرة مكملة لنيل درجة الماجستر في الأدب، تخصص أدب الشعبي كلية الآداب واللغات، قسنطينة، 2006، ص 16. 

زر الذهاب إلى الأعلى